رياض الواصلين >> القرآن و التفسير >> نموذج من روائع البلاغة القرآنية

10 مايو 2017 17:33


يقول الله تعالى في سياق قصة نوح عليه السلام:«وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء . وقضي الأمر واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين»

هذه الآية القرآنية كما يؤكد شهاب الدين الخفاجي حوت من البلاغة أمرا عجيبا ترقص الرؤوس لها طربا ، وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية أبلغ آية في القرآن لاحتوائها على أحد وعشرين نوعا من أنواع البديع ، والحال أن كلماتها تسع عشرة ، بل ان الامام الشوكاني يؤكد ان علماء البلاعة قد أطبقوا على ان هذه الاية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة الى محل يتقاصر عنه الوصف،وتضعف عن الايتان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب،وأشعار بواقع شعرائهم المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها، وقد تعرض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم فأطالوا أطابوا .

ثم ان الامام ابو السعود قد نوه بجمالية هذه الآية قائلا«بلغت من مراتب الأعجاز قاصيتها و ملكت من غــــرر المزايـــا ناصيتها، وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون، و لعمري ان ذلك فوق ما يصفه الواصفون،فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب و نفوض الأمر إلى تأمل أولي الألباب والله عنده علم الكتاب»

وفـــي معرض حديث أبي حيان الأندلسي عن هذه الآية في تفسيره المسمى بالنهر الماد من المحيط استنبط أحدا وعشرين نوعا من فنون البديع ، بل ان محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير ألف رسالة قيمـة في هذه الآية بعنوان « النهر المورود في تفسير آية هود»حيث بسط فيها بالتفصيل كل هذه الفنـون البديعة وهي المناسبة والمطابقة ، و المجاز، و الاستعارة ، و الاشارة ، والتمثيل ، والارداف ، و التعليل ، وصحة التقسيم ، و الاحتراس ،و الإيضاح ، و المساواة ، و حسن النسق ، و الإيجاز، و التسهيم ، و التهذيب ، و حــســن البيان ، و التمكين ، و التجنيس و المقابلة ، و الذم ، و الوصف

فالنظر البلاغي في الآيـة من أربـــع جهات، الاولى من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجازي وغيره والثانية من جهة علم المعاني،وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها،والثالثة والرابعة من جهة الفصاحة المعنوية واللفظية.

ومن أشهر علماء البلاغة الذين تصدوا لبيان الأسرار البلاغية في هذه الآية الامام السكاكي حيث نجده يقول:
والنظر في هذه الآية من أربع جهات،من جهة علم البيان،ومن جهة علم المعاني...ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان ...فنقول:
انه عز وجل لما اراد ان يبين معنى أردنا ان نرد ما انفجر من الأرض الى بطنها...وأن نقطع طوفان السماء...وأن نغيض الماء..وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو انجاز ما كناوعدنا من اغراق قومه.. وان نسوي السفينة على الجودي..وأبقينا الظلمة غرقى ، بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور ... وتشبيه تكوين المراد بالأمر ..وأن السماوات والأرض .. تابعة لإرادته..كأنها عقلاء مميزون...
ثم بني على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا "قيل"على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد...فقال : "يا أرض-ويا سماء".... ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع.. للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات...تقوي الأكل بالطعام ، و جعل قرينة الاستعارة لفظه "ابلعي"...
ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره ، و خاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء، ثم قال "ماءك" بإضافة الماءعلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح،
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما فيعدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا "أقلعي" لمثل ما تقدم في "ابلغي"،ثم قال "وغيض الماء وقضى الأمر وسوى السفينة وقال " بعدا"،كما لم يصرح بقائل "يا أرض"و"ياسماء"في صدر الآية،سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب،فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا(يا أرض)و(ياسماء)،ولا غائضا ما غاض،ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل،أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة انما كانت لظلمهم.

ويضيف الزمخشري أن نداء الأرض والسماء بما ينادي به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من الدلالة على الاقتدار العظيم،
ثم إن خطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعليق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيتها وانفعالهما بذلك كما يخاطب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالا وخشية .كما أن في الآية إشارة إلى أن النظم استعارة تمثيلية شبهت الهيئة المنتزعة من كمال قدرته على رد ما انفجر من الأرض إلى بطنها وجعله مضمحلا بحيث لا يبقى له أثر ولا رسم.وقطع انصباب المطر من السماء وحصول ذلك حين تعلقت إرادته العلية بلا مهلة ولا ريث بالهيئة المنتزعة من أمر الآمر المطاع وطاعة مأمور مطيع للآمر الذي يأمره بالتوقف ،فذكر اللفظ المركب الدال على الهيئة المشبه به وأريد به الهيئة المشبهة وجه الشبه الهيئة الحاصلة من الانقياد والامتثال بلا توقف ولا تلعثم .

وبالنسبة للنظر الى ترتيب الجمل فذلك أنه قد قدم النداء على الأمر جريا على مقتضى الازم فيمن كان مأمورا حقيقية من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح .وأما من حيث علم المعاني،فقد أختير «يا» دون سائر أخواتها لكونها أكثرفي الاستعمال،وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام اظهار العظمة وهو نبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به .واذا كان النظم القراني قد عدل الى النداء بدل عبارة «وقيل للأرض والسماء»فان هذا الخطاب يتضمن لطيفتين:الأولى هي دلالة ظهور العناية بالاقبال على المنادى تنويها بذكره وتشريفا لقدره،ولهذا نزله منزلةالعاقل المنتبه،والثانية تبيان أن القدرة الربانية العظيمة صالحة لتصير هذه الأجرام الجسيمة الى حال من يعقل.

ومن خصائص النظم في خطاب هذه الآية اختيار صيغة «ابلعي» على صيغة ابتلعي لكونها أخصر،ولمجيء حظ التجانس بينها وبين عبارة اقلعي أوفر،وقد أتى بصيغة ابلعي دون ما هو نظيرها مثل او أغوري أو اذهبي أو نشفي لأجل دقة التصوير الفني للمشهد المذكور في القصة،فكأنه يشبه ازدراد اللقمة ونحوها في الحلقوم ونحوه دفعة واحدة من غير توقف لمضغ ولا نحوه، فلما انتهى أمر الطوفان أمر الله تعالى الأرض ان تبتلع ذلك الماء المنفجر
بأسرع وقت.وأما عن الحكمة في قوله تعالى «قيل»دون«قال تعالى»أو«قلنا»أونحو ذلك فهي تحقيق ثلاث دلالات بلاغية الاولى هي بلاغة الايجاز،والثانية هي بلاغة التفخيم والاجلال،والثالثة هي بلاغة الابهام.ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء.وأن تلك الأمور العظام لا تكون الا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر...ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم .

وقيل «ماءك» بالأفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتى عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت،وانما لم يقل «ابلعي» بدون المفعول حتى لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء باسرهن. وأما عن فائدة ختم القصة بما ختمت به في هذه الآية فذلك من أجل الدعاء عليهم اشعارا وايذانا بتمام المراد من الاخبار عن ملخص شأن هذه القصة،وأنهم أخذوا جزاءهم وفعل بهم مايستحقون.


بقلم الأستاذ: محمد حراز
محمد حراز
آخر نشاط: معلومات غير متوفرة

12 مايو 2017 00:11

أهلا بك وبأولى مشاركاتك دكتور محمد،

ولمن لا يعرف زميلنا الفاضل، هذا تعريف مختصر به:
حاصل على الدكتوراه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان عام 2010، وعلى شهادة الدراسات العليا من مدرسة دار الحديث الحسنية بالرباط عام 1999، وعلى دبلوم التأهيل التربوي من المدرسة العليا للأساتذة بفاس عام 1992، وكان قد حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة عام 1991.
يشغل منصب أستاذ مساعد التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بتازة، فرع الحسيمة، منذ العام 2012، وكان قد عمل أستاذاً بالتعليم الثانوي التأهيلي خلال الفترة (1992-2012). وهو أيضاً عضو سابق بالمجلس العلمي الأعلى.
نُشر له عدد من المقالات في موضوعات تربوية؛ مثل: «النسق التربوي لنظام التعليم العتيق بالمغرب»، مجلة دعوة الحق المغربية، عدد 365 (مارس 2002)؛ و«ملامح تربوية وحضارية في مدرسة الحج»، مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 550 (مارس 2000)، إضافة إلى مقالات في تفسير القرآن الكريم، أبرزها مجموعة المقالات في صحيفة ميثاق رابطة علماء المغرب (2002)، وسلسلة «قبسات من القرآن الكريم» في صحيفة الأخبار المغربية (مارس-يونيو 2013). وله كتابان قيد الطباعة؛ أولهما بعنوان مقدمة في التصور الإسلامي للبيئة؛ والثاني بعنوان مناهج العلماء المسلمين في قراءة النص القرآني.
إلياس بلكا
عضو نشيط
مشاركات: 204
اشترك في: 22 إبريل 2017 14:35
آخر نشاط: 21 يونيو 2019 22:34
العمر: 55
اتصال:

12 مايو 2017 01:06

حللتم أهلا ونزلتم سهلا فضيلة الاستاذ محمد حراز موضوع رائع وجميل جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّــــي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي *** لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عنّـي
صورة العضو الشخصية
على الصوفي
عضو نشيط
مشاركات: 175
اشترك في: 21 إبريل 2017 03:15
آخر نشاط: 02 يناير 2022 12:51
اتصال:


العودة إلى “القرآن و التفسير”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائر واحد